فصل: تفسير الآيات رقم (27- 38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا المقطع الثالث جولات متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلائل الإيمان؛ ويتخذ من مشاهده المعروضة للبصائر والأبصار أدلته وبراهينه‏.‏

وهذه الجولات المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلال، وعن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض المعرضين‏.‏ وتفويض هذا الأمر لصاحبه العليم بما يصنعون‏.‏‏.‏ فمن شأن أن يؤمن فهذه أدلة الإيمان معروضة في صفحة الكون حيث لا خفاء فيها ولا غموض‏.‏ ومن شاء أن يضل فهو يضل عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب‏.‏

وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة‏.‏ وفيه دليل على البعث والنشور‏.‏ وفي خلق الإنسان من تراب، ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة‏.‏ وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في كتاب مبين‏.‏

وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة‏.‏ وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان‏.‏

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران حجة‏.‏ وفيهما على التقدير والتدبير دليل‏.‏ وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب‏.‏

هذه كلها حجج ودلائل معروضة في المجال الكوني الفسيح‏.‏ وهذا هو الله خالقها ومالكها‏.‏ والذين يدعون من دون الله ما يملكون من قطمير‏.‏ ولا يسمعون ولا يستجيبون‏.‏ ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلاّل‏.‏ فماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏

‏{‏والله الذي أرسل الرياح، فتثير سحاباً، فسقناه إلى بلد ميت، فأحيينا به الأرض بعد موتها‏.‏ كذلك النشور‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن‏.‏ مشهد الرياح، تثير السحب؛ تثيرها من البحار، فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار؛ والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً؛ ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة، فتذهب يميناً وشمالاً إلى حيث يريد الله لها أن تذهب، وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات، حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل‏.‏‏.‏ إلى بلد ميت‏.‏‏.‏ مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب‏.‏ والماء حياة كل شيء في هذه الأرض‏.‏ ‏{‏فأحيينا به الأرض بعد موتها‏}‏‏.‏‏.‏ وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها‏.‏ وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة‏.‏ وهو يقع بين أيديهم في الدنيا‏.‏‏.‏ ‏{‏كذلك النشور‏}‏‏.‏‏.‏ في بساطة ويسر، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد‏!‏

هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس، لا سبيل إلى المكابرة فيه‏.‏ ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقاً حين تتملاه وهي يقظى؛ ويلمس المشاعر لمساً موحياً حين تتجه إلى تأمله‏.‏

وهو مشهد بهيج جميل مثير‏.‏ وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء‏.‏ ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء‏.‏ والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم، مما يمرون عليه غافلين‏.‏ وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون‏.‏

ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة شيئاً إلى معنى نفسي ومطلب شعوري‏.‏

ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء‏.‏ ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله‏.‏ كما يعرض الصفحة المقابلة‏.‏ صفحة التدبير السيّئ والمكر الخبيث، وهو يهلك ويبور‏:‏

‏{‏من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد، ومكر أولئك هو يبور‏}‏‏.‏‏.‏

ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات، والكلمة الطيبة والعمل الصالح، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة‏.‏ وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم‏.‏ ‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة؛ وما فيهما من حياة ونماء‏.‏ والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء‏!‏

وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة‏.‏ وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان‏.‏ العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال‏.‏ مما جعلهم يقولون‏:‏ ‏{‏إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا‏}‏ فالله يقول لهم‏:‏

‏{‏من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً‏}‏

وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً‏!‏

إن العزة كلها لله‏.‏ وليس شيء منها عند أحد سواه‏.‏ فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره‏.‏ ليطلبها عند الله‏.‏ فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد، ولا في أي كنف، ولا بأي سبب ‏{‏فلله العزّة جميعاً‏}‏‏.‏‏.‏

إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة؛ وتخشى اتباع الهدى وهي تعترف أنه الهدى خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى‏.‏ إن الناس هؤلاء، القبائل والعشائر وما إليها، إن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها ‏{‏فلله العزّة جميعاً‏}‏‏.‏‏.‏ وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله‏.‏ وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله‏.‏ وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر‏.‏

ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم‏.‏ وهم مثله طلاب محاويج ضعاف‏!‏

إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية‏.‏ وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل الحكم والتقدير، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والأسباب‏!‏ ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع، عارفاً طريقه إلى العزة، طريقه الذي ليس هنالك سواه‏!‏

إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر‏.‏ ولا لعاصفة طاغية‏.‏ ولا لحدث جلل‏.‏ ولا لوضع ولا لحكم‏.‏ ولا لدولة ولا لمصلحة، ولا لقوة من قوى الأرض جيمعاً‏.‏ وعلام‏؟‏ والعزة لله جميعاً‏.‏ وليس لأحد منها شيء إلا برضاه‏؟‏

ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح‏:‏

‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه‏}‏‏.‏‏.‏

ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه‏.‏ فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله‏.‏ القول الطيب والعمل الصالح‏.‏ القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه؛ والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع‏.‏ ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء‏.‏

والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس‏.‏ حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله‏.‏ حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي‏.‏ يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس‏.‏ ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه‏.‏ فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم‏.‏ ومخاوفهم ومطامعهم‏.‏ ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان‏.‏‏.‏ وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان‏!‏

إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل‏.‏ وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار‏.‏ وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة‏.‏ وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح‏.‏‏.‏ كلا‏!‏ إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله‏.‏ ثم هي خضوع لله وخشوع؛ وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء‏.‏‏.‏ ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه‏.‏ ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه‏.‏ ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه‏.‏

هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق‏.‏ ثم تكمل بالصفحة المقابلة‏:‏

‏{‏والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور‏}‏‏.‏

ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون‏.‏ ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء‏.‏ فهؤلاء لهم عذاب شديد‏.‏

فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور‏.‏ فلا يحيا ولا يثمر‏.‏ من البوار ومن البوران سواء‏.‏ وذلك تنسيقاً مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة‏.‏

والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة‏.‏ وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء، وأنهم أقوياء‏.‏ ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه‏.‏ وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل‏.‏ فأما المكر السيئ قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان‏.‏ إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد‏.‏ وعد الله، لا يخلف الله وعده‏.‏ وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم‏.‏

ثم يجيء مشهد النشأة الأولى للإنسان بعد الكلام عن نشاة الحياة كلها بالماء‏.‏ ويذكر ما يلابس تلك النشأة من حمل في البطون؛ ومن عمر طويل وعمر قصير‏.‏ وكله في علم الله المكنون‏.‏

‏{‏والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجاً‏.‏ وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏.‏ وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب‏.‏ إن ذلك على الله يسير‏}‏‏.‏‏.‏

والإشارة إلى النشأة الأولى من التراب تتردد كثيراً في القرآن؛ وكذلك الإشارة إلى أول مراحل الحمل‏:‏ النطفة‏.‏‏.‏ والتراب عنصر لا حياة فيه، والنطفة عنصر فيه الحياة‏.‏ والمعجزة الأولى هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت، ولا كيف تلبست بالعنصر الأول‏.‏ وما يزال هذا سراً مغلقاً على البشر؛ وهو حقيقة قائمة مشهودة، لا مفر من مواجهتها والاعتراف بها‏.‏ ودلالتها على الخالق المحيي القدير دلالة لا يمكن دفعها ولا المماحكة فيها‏.‏

هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان‏.‏ وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة‏.‏ وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعاً‏.‏

والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين، حين يتميز الذكر من الأنثى، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثم جعلكم أزواجاً‏}‏‏.‏‏.‏ سواء كان المقصود جعلكم ذكر وأنثى وأنتم أجنة، أو كان المقصود جعلكم أزواجاً بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى‏.‏‏.‏ هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة‏!‏ فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد، الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف‏؟‏ وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة‏؟‏

إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد؛ وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة‏.‏ ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقاً واحداً على هذا النحو العجيب؛ ومخلوقاً متميزاً من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه، بل من أقرب الناس إليه، بحيث لا يتماثل أبداً مخلوقان اثنان‏.‏

‏.‏ وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه‏!‏‏.‏‏.‏ ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجاً، قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة، تسير في ذات المراحل، دون انحراف‏.‏‏.‏ إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب‏.‏ ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيراً عن تلك الخارقة المجهولة السر؛ بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار‏!‏ لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها، ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها‏!‏

وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صور كونية لعلم الله ‏(‏كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ‏)‏ صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعاً‏:‏

‏{‏وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه‏}‏‏.‏

والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات‏.‏ وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها، فالبيضة حمل من نوع خاص‏.‏ جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم؛ بل ينزل بيضة، ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنيناً كاملاً ثم يفقس ويتابع نموه العادي‏.‏

وعلم الله على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف‏!‏‏!‏‏!‏

وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير كما قلنا في سورة سبأ فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن‏.‏ وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد‏.‏

ومثلها الحديث عن العمر في الآية ذاتها‏:‏

‏{‏وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب‏.‏ إن ذلك على الله يسير‏}‏‏.‏

فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على اختلاف في الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والمواطن والأزمنة؛ ثم يتصور أن كل فرد من أفراد هذا الحشد الذي لا يمكن حصره، ولا يعلم إلا خالقه عدده يعمر فيطول عمره، أو ينقص من عمره فيقصر وفق قدر مقدور، ووفق علم متعلق بهذا الفرد، متابع له، عمر أم لم يعمر‏.‏

بل متعلق بكل جزء من كل فرد‏.‏ يعمر أو ينقص من عمره‏.‏ فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو تذبل أو تسقط عن قريب‏.‏ وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح‏.‏ وهذا القرن من ذلك الحيوان يبقى طويلاً أو يتحطم في صراع‏.‏ وهذه العين في ذلك الإنسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق تقدير معلوم‏.‏

كل ذلك ‏{‏في كتاب‏}‏‏.‏‏.‏ من علم الله الشامل الدقيق‏.‏ وأن ذلك لا يكلف جهداً ولا عسراً‏:‏ ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏‏.‏‏.‏

إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه؛ ثم يتصور ما وراءه‏.‏‏.‏ إنه لأمر عجيب جد عجيب‏.‏‏.‏ وإنه لاتجاه إلى حقيقة لا يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو‏.‏ واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير مألوف البشر كذلك‏.‏ وإنما هو التوجيه الإلهي الخاص إلى هذا الأمر العجيب‏.‏

والتعمير يكون بطول الأجل وعد الأعوام؛ كما يكون بالبركة في العمر، والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقاً مثمراً، واحتشاده بالمشاعر والحركات والأعمال والآثار‏.‏ وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين؛ أو نزع البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ‏.‏

ورب ساعة تعدل عمراً بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر، وبما يتم فيها من أعمال وآثار‏.‏ ورب عام يمر خاوياً فارغاً لا حساب له في ميزان الحياة، ولا وزن له عند الله‏!‏

وكل ذلك في كتاب‏.‏‏.‏ كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي لا يعرف حدوده إلا الله‏.‏‏.‏

والجماعات كالآحاد‏.‏ والأمم كالأفراد‏.‏‏.‏ كل منها يعمر أو ينقص من عمره‏.‏ والنص يشمله‏.‏

بل إن الأشياء لكالأحياء‏.‏ وإني لأتصور الصخرة المعمرة، والكهف المعمر، والنهر المعمر، والصخرة التي ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات؛ والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود؛ والنهر الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد‏!‏

ومن الأشياء ما تصنع يد الإنسان‏.‏ البناء المعمر أو القصير العمر‏.‏ والجهاز المعمر أو قصير العمر‏.‏ والثوب المعمر أو قصير العمر‏.‏‏.‏ وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب الله كالإنسان‏.‏

وكلها من أمر الله العليم الخبير‏.‏‏.‏

وإن تصور الأمر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد، وأسلوب جديد‏.‏ وإن القلب الذي يستشعر يد الله وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل‏.‏ وهو حيثما تلفت وجد يد الله‏.‏ ووجد عين الله‏.‏ ووجد عناية الله، ووجد قدرة الله، متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا الوجود‏.‏

وهكذا يصنع القرآن القلوب‏!‏

ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات‏.‏ يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة‏.‏ زاوية تنويع الماء‏.‏ فهذا عذب سائغ، وهذا ملح مر‏.‏ وكلاهما يفترقان ويلتقيان بتسخير الله في خدمة الإنسان‏.‏

‏{‏وما يستوي البحران‏.‏‏.‏ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج‏.‏‏.‏ ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها‏.‏ وترى الفلك فيه مواخر‏.‏ لتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة؛ ووراءها حكمة فيما نعلم ظاهرة، فأما الجانب العذب السائغ اليسير التناول فنحن نعرف جانباً من حكمة الله فيما نستخدمه وننتفع به؛ وهو قوام الحياة لكل حي‏.‏

وأما الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون الضخم‏:‏

«وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ومعظمها سام فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان‏.‏ وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء أي المحيط الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، والنباتات‏.‏ وأخيراً الإنسان نفسه‏.‏‏.‏»‏.‏

وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع، واضح فيه القصد والتدبير، ومنظور فيه إلى تناسقات وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه‏.‏ ولا يصنع هذا إلا الله خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه‏.‏ فإن هذا التنسيق الدقيق لا يجيء مصادفة واتفاقاً بحال من الأحوال‏.‏ والإشارة إلى اختلاف البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى‏.‏ وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج منها في عالم المشاعر والاتجاهات والقيم والموازين‏.‏

ثم يلتقي البحران المختلفان في تسخيرهما للإنسان‏:‏

‏{‏ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر‏}‏‏.‏‏.‏

واللحم الطري هو الأسماك والحيوانات البحرية على اختلافها‏.‏ والحلية من اللؤلؤ والمرجان‏.‏ واللؤلؤ يوجد في أنواع القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء، فيفرز جسم القوقعة داخل الصدفة إفرازاً خاصاً يحيط به هذا الجسم الغريب، كي لا يؤذي جسم القوقعة الرخو‏.‏ وبعد زمن معين يتصلب هذا الإفراز، ويتحول إلى لؤلؤة‏!‏ والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعاباً مرجانية تمتد في البحر أحياناً عدة أميال، وتتكاثر حتى تصبح خطراً على الملاحة في بعض الأحيان؛ وخطراً على كل حي يقع في براثنها‏!‏ وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلى‏!‏

والفلك تمخر البحار والأنهار أي تشقها بما أودع الله الأشياء في هذا الكون من خصائص‏.‏ ولكثافة الماء وكثافة الأجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه‏.‏ وللرياح كذلك‏.‏ وللقوى التي سخرها الله للإنسان وعرفه كيف يستخدمه كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من القوى‏.‏ وكلها من تسخير الله للإنسان‏.‏

‏{‏لتبتغوا من فضله‏}‏‏.‏‏.‏ بالسفر والتجارة، والانتفاع باللحم الطري والحلى واستخدام الماء والسفن في البحار والأنهار‏.‏

‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏ وقد يسر الله لكم أسباب الشكر، وجعلها حاضرة بين أيديكم‏.‏ ليعينكم على الأداء‏.‏

ويختم هذا المقطع بجولة كوينة في مشهد الليل والنهار‏.‏ ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم‏:‏

‏{‏يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل‏.‏

وسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى‏}‏‏.‏‏.‏

وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين‏.‏ مشهد دخول الليل في النهار، والضياء يغيب قليلاً قليلاً، والظلام يدخل قليلاً قليلاً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب‏.‏ ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح، وينتشر الضياء رويداً رويداً، ويتلاشى الظلام رويداً رويداً، حتى تشرق الشمس ويعم الضياء‏.‏‏.‏ كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه‏.‏ وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه‏.‏‏.‏ وقد يعنيهما معاً بتعبير واحد‏.‏ وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط، وتطوي ذاك الخط، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط‏.‏ في نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب‏.‏ ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون‏.‏‏.‏

وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما، والذي لا يعلمه إلا خالقهما‏.‏‏.‏ هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان، سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين، ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما ومداها‏.‏‏.‏ أم لا يعلم من هذا كله شيئاً‏.‏‏.‏ فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان، ويصعدان وينحدران أمام كل بصر‏.‏ وهذه الحركة الدائبة التي لا تفتر ولا تختل حركة مشهودة لا يحتاج تدبرها إلى علم وحساب‏!‏ ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الأجيال على السواء‏.‏ وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة‏.‏ وليس هذا هو المهم‏.‏ إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم‏.‏‏.‏ والحياة حياة القلوب‏.‏‏.‏

وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية، وبطلان كل ادعاء بالشرك، وخسران عاقبته يوم القيامة‏:‏

‏{‏ذلكم الله ربكم له الملك، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير‏.‏ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم‏.‏ ولو سمعوا ما استجابوا لكم‏.‏ ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏.‏ ولا ينبئك مثل خبير‏}‏‏.‏‏.‏

ذلكم‏.‏ الذي أرسل الرياح بالسحاب، والذي أحيا الأرض بعد موتها، والذي خلقكم من تراب، والذي جعلكم أزواجاً، والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع، والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره، والذي خلق البحرين، والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى‏.‏‏.‏ ذلكم هو ‏{‏الله ربكم‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏له الملك‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير‏}‏‏.‏‏.‏ والقطمير غلاف النواة‏!‏ وحتى هذا الغلاف الزهيد لا يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون الله‏!‏

ثم يمعن في الكشف عن حقيقة أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

مرة أخرى يرجع إلى الهتاف بالناس أن ينظروا في علاقتهم بالله، وفي حقيقة أنفسهم؛ ويرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتسلية عما يلقى، والتسرية عما يجد من إعراض وضلال كالشأن في المقطع الثاني من السورة ويزيد هنا الإشارة إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال، وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصيل عميق كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر والظلمات والنور والظل والحرور والموت والحياة‏.‏ وأن بين الهدى والبصر والنور والظل والحياة صلة وشبهاً؛ كما أن بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبهاً‏!‏ ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير‏.‏

‏{‏يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز‏}‏‏.‏‏.‏

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات إلى نور الله وهداه‏.‏ في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله‏.‏ وأن الله غني عنهم كل الغنى‏.‏ وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته‏.‏ وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير‏.‏‏.‏

الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله جل وعلا يعنى بهم، ويرسل إليهم الرسل؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور‏.‏ ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله‏!‏ وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى‏!‏ والله هو الغني الحميد‏.‏

وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله بإرسال رسله إليهم، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء‏.‏‏.‏ إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً‏.‏ لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته‏.‏ لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم، أو ينقصون من ملكه بعماهم‏.‏ ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل‏.‏

وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه، حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر، الضعيف العاجز، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل‏!‏

والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض‏.‏

والأرض تابع صغير من توابع الشمس‏.‏ والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم‏.‏ والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة على ضخامتها الهائلة متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده‏.‏ وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله‏!‏

ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية‏.‏‏.‏ ينشئه، ويستخلفه في الأرض، ويهبه كل أدوات الخلافة سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره‏.‏ فيرسل الله إليه الرسل، رسولاً بعد رسول، وينزل على الرسل الكتب والخوارق‏.‏ ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات، ومن عجز وضعف، بل إنه سبحانه ليحدث عن فلان وفلان بالذات، فيقول لهذا‏:‏ أنت فعلت وأنت تركت، ويقول لذاك‏:‏ هاك حلاً لمشكلتك، وهاك خلاصاً من ضيقتك‏!‏

كل ذلك‏.‏ وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض، التابعة الصغيرة من توابع الشمس، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس‏!‏ والله سبحانه هو فاطر السماوات والأرض، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة‏.‏ بمجرد توجه الإرادة‏.‏ وهو قادر على أن يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة‏.‏‏.‏

والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته‏.‏ وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران‏.‏

فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية، إلى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة‏.‏ والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر؛ لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس؛ ولأنه هو الحق وبالحق نزل‏.‏ فلا يتحدث إلا بالحق، ولا يقنع إلا بالحق، ولا يعرض إلا الحق، ولا يشير بغير الحق‏.‏‏.‏

ولمسة أخرى بحقيقة أخرى‏.‏ حقيقة فردية التبعة، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه أحد عن أحد شيئاً‏.‏ فما بالنبي صلى الله عليه وسلم من حاجة إلى هدايتهم يحققها لنفسه، فهو محاسب على عمله وحده، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه، يحمل حمله وحده، لا يعينه أحد عليه‏.‏ ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه، وهو الكاسب وحده لا سواه؛ والأمر كله صائر إلى الله‏:‏

‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏.‏ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه‏.‏ وإلى الله المصير‏}‏‏.‏‏.‏

وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي، وفي السلوك العملي سواء‏.‏ فشعور كل فرد بأنه مجزيٌّ بعمله، لا يؤاخذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسب‏!‏ مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً‏.‏

كما أنه في الوقت ذاته عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة؛ فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب‏.‏ ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة‏.‏

إن الله سبحانه لا يحاسب الناس جملة بالقائمة‏!‏ إنما يحاسبهم فرداً فرداً؛ كل على عمله‏.‏ وفي حدود واجبه‏.‏ ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده‏.‏ فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها، فإنما هو محاسب على إحسانه‏.‏ كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح‏.‏ فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا‏!‏

والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن، فتكون أعمق وأشد أثراً‏.‏ يصور كل نفس حاملة حملها‏.‏ لا تحمل نفس حمل أخرى‏.‏ وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها‏!‏

إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقالها ويمضي في طريقه، حتى يقف أمام الميزان والوزّان‏!‏ وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء، واهتمام كل بحمله وثقله، وانشغاله عن البعداء والأقرباء‏!‏

وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة، يلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة‏}‏‏.‏‏.‏

فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار‏.‏ هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه‏.‏ ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه‏.‏ هؤلاء هم الذين ينتفعون بك، ويستجيبون لك‏.‏ فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة‏.‏

‏{‏ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه‏}‏‏.‏‏.‏

لا لك‏.‏ ولا لغيرك‏.‏ إنما هو يتطهر لينتفع بطهره‏.‏ والتطهر معنى لطيف شفاف‏.‏ يشمل القلب وخوالجه ومشاعره، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره‏.‏ وهو معنى موح رفاف‏.‏

‏{‏وإلى الله المصير‏}‏‏.‏‏.‏

وهو المحاسب، والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيء‏.‏ ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون‏.‏‏.‏

ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر، والخير والشر، والهدى والضلال؛ كما لا يستوي العمى والبصر، والظلمة والنور، والظل والحرور، والحياة والموت‏.‏ وهي مختلفة الطبائع من الأساس‏:‏

‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير‏.‏ ولا الظلمات ولا النور‏.‏ ولا الظل ولا الحرور‏.‏ وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏‏.‏‏.‏

وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة‏.‏ كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة‏.‏‏.‏

إن الإيمان نور، نور في القلب ونور في الجوارح، ونور في الحواس‏.‏

نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد‏.‏ فالمؤمن ينظر بهذا النور، نور الله، فيرى تلك الحقائق، ويتعامل معها، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته‏!‏

والإيمان بصر، يرى‏.‏ يرى رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة‏.‏ ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان‏.‏

والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل‏!‏

والإيمان حياة‏.‏ حياة في القلوب والمشاعر‏.‏ حياة في القصد والاتجاه‏.‏ كما أنه حركة بانية‏.‏ مثمرة‏.‏ قاصدة‏.‏ لا خمود فيها ولا همود‏.‏ لا عبث فيها ولا ضياع‏.‏

والكفر عمى‏.‏ عمى في طبيعة القلب‏.‏ وعمى عن رؤية دلائل الحق‏.‏ وعمى عن رؤية حقيقة الوجود‏.‏ وحقيقة الارتباطات فيه‏.‏ وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء‏.‏

والكفر ظلمة أو ظلمات‏.‏ فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال‏.‏ ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء‏.‏

والكفر هاجرة‏.‏ حرور‏.‏ تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير‏.‏ ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك‏!‏

والكفر موت‏.‏ موت في الضمير‏.‏ وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل‏.‏ وانفصال عن الطريق الواصل‏.‏ وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي، المؤثرين في سير الحياة‏!‏

ولكل طبيعته ولكل جزاؤه، ولن يستوي عند الله هذا وذاك‏.‏

وهنا يلتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعزيه ويسري عنه، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله‏.‏ وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء‏:‏

‏{‏إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور‏.‏ إن أنت إلا نذير‏.‏ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏.‏ وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير‏.‏ ثم أخذت الذين كفروا‏.‏ فكيف كان نكير‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس‏.‏ واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى، والظل والحرور، والظلمات والنور، والحياة والموت‏.‏ ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته‏.‏ وقدرته على ما يشاء‏.‏

وإذن فالرسول ليس إلا نذيراً‏.‏ وقدرته البشرية تقف عند هذا الحد‏.‏ فما هو بمسمع من في القبور‏.‏ ولا من يعيشون بقلوب ميتة فهم كأهل القبور‏!‏ والله وحده هو القادر على إسماع من يشاء، وفق ما يشاء، حسبما يشاء‏.‏ فماذا على الرسول أن يضل من يضل، ويعرض من يعرض متى أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، فسمع من شاء الله أن يسمع، وأعرض من شاء الله أن يعرض‏؟‏

ومن قبل قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 38‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

وهذه الجولة قراءات في كتاب الكون وفي الكتاب المنزل‏.‏ قراءات في كتاب الكون في صحائفه المعجبة الرائعة، المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس‏.‏ الثمار المتنوعة الألوان، والجبال الملونة الشعاب، والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة‏.‏‏.‏ هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح‏.‏‏.‏ وقراءات في الكتاب المنزل وما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة‏.‏ وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة‏.‏ ودرجات الوارثين‏.‏ وما ينتظرهم جميعاً من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين؛ ومشهدهم في دار النعيم‏.‏ ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم‏.‏ وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقاً لعلم الله العليم بذات الصدور‏.‏‏.‏

‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها؛ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك‏.‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء‏.‏ إن الله عزيز غفور‏}‏‏.‏‏.‏

إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب‏.‏ لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها‏.‏ في الثمرات‏.‏ وفي الجبال‏.‏ وفي الناس‏.‏ وفي الدواب والأنعام‏.‏ لفتة تجمع في كلمات قلائل، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً؛ وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً‏.‏

وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان‏.‏ ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها ‏{‏فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها‏}‏‏.‏‏.‏ وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال‏.‏ فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر‏.‏ بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد‏.‏ فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون‏!‏

وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية‏.‏ ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحياناً ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها‏!‏

‏{‏ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود‏}‏‏.‏‏.‏

والجدد الطرائق والشعاب‏.‏ وهنا لفتة في النص صادقة، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها‏.‏ والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها‏.‏ مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد‏.‏

واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزاً، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان‏.‏

ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصراً مشتركاً بين هذه وتلك، يستحق النظر والالتفات‏.‏

ثم ألوان الناس‏.‏ وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر‏.‏ فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه‏.‏ بل متميز من توأمه الذي شاركه حملاً واحداً في بطن واحدة‏!‏

وكذلك ألوان الدواب والأنعام‏.‏ والدواب أشمل والأنعام أخص‏.‏ فالدابة كل حيوان‏.‏ والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان‏.‏ والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء‏.‏

هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول‏:‏ إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله‏:‏

‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب‏.‏ ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية‏.‏ يعرفونه بآثار صنعته‏.‏ ويدركونه بآثار قدرته‏.‏ ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه‏.‏ من ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً، ويعبدونه حقاً‏.‏ لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون‏.‏ ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر‏.‏‏.‏ وهذه الصفحات نموذج من الكتاب‏.‏‏.‏ والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب‏.‏ العلماء به علماً واصلاً‏.‏ علماً يستشعره القلب، ويتحرك به، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل‏.‏

إن عنصر الجمال يبدو مقصوداً قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه‏.‏ ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها‏.‏ هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح‏.‏ ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح، لتنشأ الثمار‏.‏ وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها‏!‏‏.‏‏.‏ والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان‏.‏ وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال‏.‏

الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه‏.‏ ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض‏.‏

‏{‏إن الله عزيز غفور‏}‏‏.‏‏.‏

عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء‏.‏ غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته، وهم يرون بدائع صنعته‏.‏

ومن كتاب الكون ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل، والذين يتلونه، وما يرجون من تلاوته، وما ينتظرهم من جزاء‏:‏

‏{‏إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، يرجون تجارة لن تبور‏.‏ ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏.‏

إنه غفور شكور‏}‏‏.‏‏.‏

وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت‏.‏ تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك‏.‏ ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سراً وعلانية من رزق الله‏.‏ ثم رجاؤهم بكل هذا ‏{‏تجارة لن تبور‏}‏‏.‏‏.‏ فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون‏.‏ ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح‏.‏ يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة؛ ويتاجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة‏.‏‏.‏ تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله‏.‏ ‏{‏إنه غفور شكور‏}‏‏.‏‏.‏ يغفر التقصير ويشكر الأداء‏.‏ وشكره تعالى كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء‏.‏ ولكن التعبير يوحي للبشر بشكر المنعم‏.‏ تشبهاً واستحياء‏.‏ فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء‏؟‏‏!‏

ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب، وما فيه من الحق، تمهيداً للحديث عن ورثة هذا الكتاب‏:‏

‏{‏والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق، مصدقاً لما بين يديه‏.‏ إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏‏.‏‏.‏

ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة‏.‏ وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره‏.‏ والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه‏.‏ ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم‏:‏ ‏{‏إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏‏.‏‏.‏

هذا هو الكتاب في ذاته‏.‏ وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة، اصطفاها لهذه الوراثة، كما يقول هنا في كتابه‏:‏

‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا‏}‏‏.‏‏.‏

وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة‏.‏ وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب‏؟‏

إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء‏:‏

‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏.‏ ومنهم مقتصد‏.‏ ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله‏}‏‏.‏‏.‏

فالفريق الأول ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عدداً ‏{‏ظالم لنفسه‏}‏ تربى سيئاته في العمل على حسناته والفريق الثاني وسط ‏{‏مقتصد‏}‏ تتعادل سيئاته وحسناته‏.‏ والفريق الثالث ‏{‏سابق بالخيرات بإذن الله‏}‏، تربى حسناته على سيئاته‏.‏‏.‏ ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعاً‏.‏ فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية‏.‏ على تفاوت في الدرجات‏.‏

ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها، وكرم الله سبحانه في جزائها‏.‏ فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جميعاً بفضل الله ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 45‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل على جولات واسعة المدى كذلك، ولمسات للقلب وإيحاءات شتى‏:‏ جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة، يخلف بعضها بعضاً‏.‏ وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله‏.‏ وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا‏.‏ وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً‏.‏ وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية‏.‏‏.‏ ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏‏.‏ وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد‏.‏‏.‏

‏{‏هو الذي جعلكم خلائف في الأرض‏.‏ فمن كفر فعليه كفره‏.‏ ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً‏.‏ ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً‏}‏‏.‏

إن تتابع الأجيال في الأرض، وذهاب جيل ومجيء جيل، ووراثة هذا لذاك، وانتهاء دولة وقيام دولة، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة‏.‏ وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور‏.‏‏.‏ إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم‏.‏ وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار، وتقلب الصولجان، وتديل الدول، وتورث الملك، وتجعل من الجيل خليفة لجيل‏.‏ وكل شيء يمضي وينتهي ويزول، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول‏.‏

ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي، فلا يخلد ولا يبقى‏.‏ من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل‏.‏ من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل، ويترك وراءه الذكر الجميل، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير‏.‏

هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور، الطلوع والأفول، والدول الدائلة، والحياة الزائلة، والوراثة الدائبة جيلاً بعد جيل‏:‏

‏{‏هو الذي جعلكم خلائف في الأرض‏}‏‏.‏‏.‏

وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر، يذكرهم بفردية التبعة، فلا يحمل أحد عن أحد شيئاً، ولا يدفع أحد عن أحد شيئاً؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف‏:‏

‏{‏فمن كفر فعليه كفره‏.‏

ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً‏.‏ ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً‏}‏‏.‏

والمقت أشد البغض‏.‏ ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره‏؟‏ وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران‏؟‏‏!‏

والجولة الثانية في السماوات والأرض، لتقصِّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله، والسماوات والأرض لا تحس لهم أثراً، ولا تعرف عنهم خبراً‏:‏

‏{‏قل‏:‏ أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله‏؟‏ أروني ماذا خلقوا من الأرض‏؟‏ أم لهم شرك في السماوات‏؟‏ أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه‏؟‏ بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً‏}‏‏.‏

والحجة واضحة والدليل بيّن‏.‏ فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها‏.‏ هذه هي مشهودة منظورة‏.‏ أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحداً غير الله خلقه وأنشأه‏!‏ إن كل شيء يصرخ في وجه هذه الدعوى لو جرؤ عليها مدع‏.‏ وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله؛ وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع، لأنه لا تشبهها صنعة، مما يعمل العاجزون أبناء الفناء‏!‏

‏{‏أم لهم شرك في السماوات‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولا هذه من باب أولى‏!‏ فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات‏.‏ ولا مشاركة في ملكية السماوات‏.‏ كائنة ما كانت‏.‏ حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة‏.‏‏.‏ فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء‏.‏ أو يستشفعوا بالملائكة عند الله‏.‏ ولم يرتق ادعاؤهم يوماً إلى الزعم بأن لهم شركاً في السماء‏!‏

‏{‏أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وحتى هذه الدرجة درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتاباً فهم مستيقنون منه، واثقون بما فيه لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون‏.‏‏.‏ والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجهاً إلى المشركين أنفسهم لا إلى الشركاء فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان‏.‏ وليس هذا صحيحاً ولا يمكن أن يدعوه‏.‏ وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن‏.‏ وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق‏.‏ وليس لهم من هذا شيء يدعونه؛ بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن‏.‏ فما لهم يعرضون عنه، وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة‏؟‏‏!‏

‏{‏بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً‏}‏‏.‏‏.‏

والظالمون يعد بعضهم بعضاً أن طريقتهم هي المثلى؛ وأنهم هم المنتصرون في النهاية‏.‏ وإن هم إلا مخدوعون مغرورون، يغر بعضهم بعضاً، ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئاً‏.‏‏.‏

والجولة الثالثة بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك‏:‏

‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده‏.‏

إنه كان حليماً غفوراً‏}‏‏.‏‏.‏

ونظرة إلى السماوات والأرض؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود‏.‏ وكلها قائمة في مواضعها، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها، لا تختل، ولا تخرج عنها، ولا تبطئ أو تسرع في دورتها، وكلها لا تقوم على عمد، ولا تشد بأمراس، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك‏.‏‏.‏ نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول‏.‏

ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها، واختلت وتناثرت بدداً، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً‏.‏ وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيراً لنهاية هذا العالم‏.‏ حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه‏.‏

وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا‏.‏ والانتهاء إلى العالم الآخر، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافاً كاملاً‏.‏

ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله‏:‏

‏{‏إنه كان حليماً غفوراً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏حليماً‏}‏ يمهل الناس، ولا ينهي هذا العالم بهم، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم‏.‏ ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد‏.‏ ‏{‏غفوراً‏}‏ لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيراً‏.‏ وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود‏.‏

والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه، ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد، وفساد في الأرض‏.‏ وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف، ولا تبديل فيها ولا تحويل‏:‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم‏.‏ فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً‏.‏ استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين‏؟‏ فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة؛ وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون؛ وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم، وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به‏.‏ وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود؛ ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالاً للتشديد في القسم‏:‏ ‏{‏لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم‏}‏‏.‏‏.‏ يعنون اليهود‏.‏ يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون‏!‏

ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم‏.‏

‏.‏ يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم‏.‏ ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم، وأرسل فيهم نذيراً‏:‏

‏{‏فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً‏.‏ استكباراً في الأرض ومكر السيئ‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم‏:‏ استكباراً في الأرض ومكر السيئ‏.‏ والقرآن يكشفهم هذا الكشف، ويسجل عليهم هذا المسلك‏.‏ ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري‏:‏

‏{‏ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏}‏‏.‏‏.‏

فما يصيب مكرهم السيئ أحداً إلا أنفسهم؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن‏؟‏ إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم، وهو معروف لهم‏.‏ وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد‏:‏

‏{‏فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً‏}‏‏.‏‏.‏

والأمور لا تمضي في الناس جزافاً؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول‏.‏ والقرآن يقرر هذه الحقيقة، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة‏.‏ محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان‏.‏ ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس‏.‏ ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس‏.‏

وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول‏:‏

‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض‏.‏ إنه كان عليماً قديراً‏}‏‏.‏

والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ؛ والوقوف على مصارع الغابرين، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه‏.‏‏.‏ كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى‏.‏‏.‏

ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين، وآثار الذاهبين‏.‏ وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها، فلا تقف‏.‏ وإذا وقفت لا تحس‏.‏ وإذا أحست لا تعتبر‏.‏ وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة‏.‏ وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية‏.‏ وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات؛ لا رابط لها، ولا قاعدة تحكمها‏.‏ والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس‏.‏

وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم وكانوا أشد منهم قوة فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم‏.‏